Booking.com

دائماً تجذبني رائحة الصحراء واتساعها، قرص الشمس الناري يتوسط زرقة السماء الصافية ونقوش خالدة شاهدة على جمال الطبيعة البكر التي لم تبح بكل أسرارها بعد، فهي تُبقي عليها لمن اختارتهم ووهبت لهم نفسها، هؤلاء الذين بعزيمتهم وجهدهم يُشق الصخر ويتحرك الحجر وتخرج المدن من بطون الجبال.

هناك في الصحراء وحيث الصمت يغلف المكان إلا من صوت الريح تعانق الصخور في حوار أبدي لا ينتهي بينهما… وعندها فقط أشعر برغبة عارمة للانطلاق إليها، إلى تلك المدينة الشرقية المذهلة، المدينة الوردية التي لا مثيل لها، إلى البتراء.

البتراء، الأردن

“البتراء” المدينة الوردية المذهلة في قلب الصحراء

يقولون أن مدينة البتراء بها سر غامض لا يعرفة أحد سوى الله سبحانه وتعالى، هذا السر يسلب الإنسان إرادته فيعود إلى المكان مرات عديدة، ولعل هذا السحر هو الذى خلب ألباب الأنباط قديماً وقبل ألفي سنة وحين كانت المملكة النبطية في أوج قوتها ومجدها، فاتخذوها عاصمةً لهم، ومن عاصمتهم تلك استطاعوا تأسيس شبكة محكمة من طرق القوافل التي كانت تحضر إليهم التوابل والبخور والتمر والذهب والفضة والأحجار الثمينة من الهند والجزيرة العربية، والحرير من غزة ودمشق، والحناء من عسقلان، والزجاجيات من صور وصيدا واللالئ من الخليج العربي، وتؤخذ هذة البضائع للتجارة بها غرباً، ونتيجة للثروة التي حصلوا عليها، قاموا بتزيين مدينتهم بالقصور والمعابد والفسيفساء.

مابين السيق والجرف

تقع البتراء على بعد 225 كيلومتر جنوب العاصمة الأردنية عمّان، حوالي ثلاثة ساعات على الطريق الصحراوي إلى الغرب من الطريق الرئيسي الذي يصل بين عمّان ومدينة العقبة على ساحل خليج العقبة من البحر الأحمر.

وتتميز مدينة البتراء بأنها حُفرت في صخر “وادي موسى” الوردي، ولذا سميت بالمدينة الوردية. و يمكنك أن تصل اليها بواسطة السيارة وبعدها تبدأ في السير بين جنبات مدينة ضخمة محفورة في الصخر، ومختبئة خلف حاجز منيع من الجبال المتراصة التي بالكاد يسهل اختراقها يطلق علية اسم (السيق) أو  (الشق)، والذي يبدأ من مدخلها الرئيسي ويواصل طريقه بين جداري الجرف الضيقين، واللذين يصل ارتفاعهما إلى مائة متر ويسمحان بصعوبة لأشعة الشمس بالمرور في خيوط رفيعة ومتقطعة.

البتراء كما تبدو من داخل السيق، الأردن

واجهة الخزنة كما تبدو من داخل السيق

وفي طريقك تشاهد هذة الفرج الضيقة في الصخور والمنقوش عليها العديد من الكتابات الأثرية واللغات القديمة التي تعود إلى عصر الإمبراطورية الرومانية، وحينما يقترب السيق من نهايته، وفيما أنت سارح في حيرة تحاول فك هذة الطلاسم التي شاهدتها،  فجأة وفي استدارة جانبية للشق يُغشي عينيك الضوء الساطع لأشعة الشمس والتي تجمعت وتركزت على هذة الواجهة الضخمة في منطقة فسيحة لتظهر الخزنة الشهيرة  البراقة والمنحوتة في الصخر بارتفاع 140 مترا وعرض 90 مترا.

هذه الواجهة الشاهقة هي ذاتها التي افتتن بها مخرج فيلم المغامرات “أنديانا جونز” فاستخدمها في سلسلة اللقطات الأخيرة للفيلم السينمائى  الشهير، وهذة الواجهة ليست سوى أول سر من أسرار البتراء ولاسيما مع وجود هذة الجرة القابعة في أعلى هذا الصرح العظيم والتي كانوا يعتقدون قديما أنها تحوي كنوزاً لا تُعد ولا تُحصى من الذهب والجواهر الثمينة ومن هنا جاء اسم (الصرح). ويعتقد بعض العلماء أن الخزنة التي نُحتت في القرن الأول الميلادي كضريح لأحد ملوك الأنباط قد استعملت فيما بعد كمعبد مقدس.

البتراء ليلاً، الأردن

واجهة “الخزنة” في البتراء ليلاً

 تكفيك زيارة البتراء لتعرف مدى تصميم وعزيمة أولئك الذين بنوها، فقد شقوا عاصمتهم في صخر الصحراء الصلب لتدوم دولتهم قرابة خمسمائة عام، ولا زالت آثارهم تشهد لهم بالعلم والمعرفة والعراقة بعد مرور أكثر من ألفي عام، فإلى اليوم مازالت آثار هذة البيوت القديمة المنحوتة في الصخور وكذلك تلك الردهات الفسيحة وقاعات الاحتفالات الضخمة والصهاريج والحمامات وصفوف الدرج المزخرفة والأسواق والبوابات ذات الأقواس والشوارع والأبنية، وكذلك قنوات المياة المميزة إذ تتفرد البتراء بنظامها المائي المدهش، حيث تتوزع فيها قنوات مبنية بشكل هندسي يضمن انسياب الماء من منابعة وعيونة إلى كافة المناطق الحيوية في المدينة بفعل الجاذبية. كما يمكنك مشاهدة شارع الأعمدة الذى يعد قلب مدينة البتراء، والسوق الذي كان يوماً سوقاً مركزياً يعج بالحركة وتحف بة المخازن والمنازل.

الدير الوردي

مشياً على قدميك، أو على ظهر جواد، أو في عربة تجرها الخيول تستطيع الوصول إلى الدير المقدس، والذى يتكون من مجموعة متواصلة من 8000 درجة حجرية.

كان المعبد أو الضريح موقعاً هاماً للحج، حيث كان المصلون والكهنة يستعملون طريقاً للاحتشاد في المنطقة المكشوفة أمام الصرح، وابتداءً من القرن الرابع استعمل كدير إبان الحقبة البيزنطية المسيحية والتي تركت أثارها المتمثلة في الصلبان المنحوتة على جداره الخلفي.

الدير في البتراء

الدير في البتراء

وبصفة عامة يمكن القول أن البتراء مدينة متنوعة الحضارات والثقافات لا تقتصر على آثار الأنباط وحدهم، إذ يستطيع الزائر أن يشاهد على مقربة منها موقع البيضاء وموقع البسطة اللذين يعودان إلى عهد الأدوميين قبل 8000 سنة. كما يوجد داخل مدينة البتراء الوردية وعلى أحد قمم جبل هور المطلة على نهاية المدينة يقع مقام النبي هارون (عليه السلام)  وقبره، وهو عبارة عن غرفة مزينة بأقمشة خضراء تعلوها  قبة بيضاء  وأمامه حجر أسود، ويعتقد سكان هذه المناطق بأن للمكان منزلة عظيمة، فالدعاء هناك مستجاب.

قبر النبي هارون عليه السلام على جبل هارون

قبر النبي هارون عليه السلام على جبل هارون

معالم ملكية

بالتأكيد بدأت الآن تلمس إجابات عن أسئلة دارت في ذهنك قبل زيارتك البتراء أهمها سبب الشهرة العظيمة لهذة المدينة الفاتنة، والتي كلما توغلت في اكتشافها باحت لك بالمزيد، فهذه هي صهاريج الجن وتتكون من ثلاثة صروح حجرية اختلفت الآراء في التكهن بمغزى وجودها؛ فالبعض يعتقد أنها أضرحة بينما يظن آخرون أنها مكرسة للإله النبطي “دوشارا”.

ولعل هذة الأضرحة الملكية هي الأكثر تأثيراً في النفس من بين 500 ضريح في البتراء، وأكبرها ضريح أو مقبرة الجرة الذي ينافس بسهولة الخزنة والدير في حجمه الضخم، ويُذكر أنه في أواسط القرن الخامس اسُتخدمت الغرفة الرئيسية فيه ككنيسة بيزنطية.

ضريح أو مقبرة الجرة

ضريح أو مقبرة الجرة

أما ضريح الحرير الذي أتلفته عوامل الطبيعة فيعتبر الأصغر حجماً بين الأضرحة، ومع ذلك يشكل منظراً فريداً بألوانه المتألقة، فها هو الأحمر يعانق الأصفر، والرمادي ينساب خلال الأحجار وعبر الواجهات التي يتقدمها إلى الكورنيش المزدوج.

وإلى الضريح “الكورنثى” الذى أثار حيرة الكثير من المهندسين المعماريين، إذ يبدو خليطاً من عناصر مختلفة، فالجزء الأعلى منه يحاكي الخزنة بينما الطابق السفلي نسخة واضحة من تريكلينوم باب السيق. أما ضريح “سكسيتوس فلونتيوس” فهو الضريح الوحيد في البتراء الذى يحمل تاريخاً حديثاً، فقد نُحت  حوالي عام 130م للحاكم الروماني للولاية العربية، ويشتهر بنقوشه الموجودة فوق مدخله.

إقرأ أيضا: بالفيديو “البتراء” مدينة الألغاز، السياحة في الأردن

صور للمدينة الوردية “البتراء”:

شارك برأيك