اعترف أن زيارة منطقة الأخدود الأثرية ليست أبداً زيارة تقليدية، هي زيارة استثنائية لمنطقة فريدة، شهدت مقاومة عنيفة للظلم والطغيان، وتروي أطلالها وجدرانها المهدمة وصخورها وحبات رمالها قصة أصحاب الأخدود ومآساتهم التي تعرضوا لها على يد ملك حمير، فهي باقية حتى اليوم يكتنفها الغموض والأسرار رغم البحث والتنقيب.
يتجول الزائر بين أطلال المدينة الحزينة، وقد يُخيَّل له أنه يسمع تلك الصرخات الصادرة من حناجر المؤمنين وهم يقفون بوجه ذلك الملك الظالم ليعلنوا التحدي والرفض، ونكاد نرى وجه الملك الغاضب ينفث الشرر مقرراً الانتقام الرهيب، ذلك الانتقام الذى نزل فيه قرأن يُتلى ليوم الدين. هي زيارة تحمل بين جنباتها رسالة وعظة يتعلم منها الفرد أهمية الإيمان بمعتقداته والتمسك برأيه حتى وإن كان العقاب هو الحرق حياً والذي تتحول معه النار برداً وسلاماً.
يعد موقع الأخدود الأثري من أبرز المواقع الأثرية في مدينة نجران التي تقع جنوب المملكة العربية السعودية على الحدود مع اليمن، وبالقرب من صحراء الربع الخالي، وهي المدينة التي ورد ذكرها في القران الكريم في سورة البروج: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ*النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ*إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) (البروج: 4-7)
شهداء نجران
كانت مدينة الأخدود التاريخية تُعرف سابقاً باسم “رقمات” إلى عصر الدولة الحميرية، وتعاقبت عليها الحضارات المسيحية واليهودية قبل أن تشهد في عام 518 ميلادية ما يُصنف أحياناً كأول محرقة ارتكبت بحق البشر من قِبل ملك حمير “ذو النواس” الذي حاصر المدينة وأعطي شعبها خيارين صعبين إما التحول عن دينهم أو الموت، ولكنهم رفضوا التخلي عن دينهم، فغضب الملك وأمر أتباعه بحفر أخدود عظيم ملؤه بالحطب وأشعلوا فيه ناراً عظيمة وصل لظاها السماء، حتى أنه يُقال بأن الطيور التي طارت فوقها قد احترقت وشُويت ونضجت وهي لا تزال في السماء من شدة حرارة النار، ولما جاء الوقت الموعود للمذبحة أُلقي في النار أكثر من 20 ألف من اتباع الديانة المسيحية من الرجال والنساء والأطفال والعجائز، ولا تزال آثار بعض هذه العظام إلى الآن في حفرة الأخدود.
استطاع عدد من أهل المدينة المنكوبة النجاة من قبضة “ذو نواس”، وكان من بينهم دوس بن ثعبان الذي استجار بامبراطور الروم طالباً النجدة، ورأى الامبراطور هذه المذبحة فرصة مواتية لاحتلال الجزيرة العربية فأرسل جيشاً قوامه سبعة آلاف مقاتل بقيادة (الرباط)، وتمكن جيش (الرباط) من القضاء على دولة حمير ونتيجة لذلك ظلت نجران على مسيحيتها حتى دخلت الإسلام في السنة العاشرة من الهجرة على يد خالد بن الوليد.
أطلال ونقوش
يعد موقع الأخدود الأثري من أبرز وأغنى المواقع الأثرية في الجزيرة العربية بما يحتويه من كتابات ونقوشات على الأحجار يعود تاريخها إلى أكثر من 1750 سنة، وهو الموقع الذي كانت تقوم عليه مدينة نجران القديمة، ويقع على الضفة الجنوبية لوادي نجران.
يمكنك الوصول لمنطقة الأخدود الأثرية بواسطة السيارة لتقابلك بوابة ضخمة ثم طريق رملي يمتد عشرات الأمتار، ثم تبدأ رحلة المشى على الأقدام لترى بوابة ضخمة لأطلال قلعة حصينة ضخمة الجدران والمرصوصة حجارتها بعناية.
ثم يقابلك سور دائرى مشيد من الحجارة المربعة، ومزين من الأعلى بشرفات يحيط بالمنطقة بكاملها بطول 235 متر، وعرض 220 متر وعلى مساحة خمسة كيلومترات مربعة تقريباً. ويحوي العديد من القطع الأثرية الحجرية والفخارية، ويضم 32 بيتاً بنيت أساسات مبانيها من الأحجار المنحوتة بعناية بارتفاعات تتراوح بين 2-4 أمتار، وأطلال أول مسجد بنى في نجران وتلقى منه المسلمون العلم على يد عمر بن حزم، وتشاهد أيضاً أطلال بئر مطمورة مثمنة الأضلاع تدل على الإتقان الهندسي الذى ميز أهل نجران القديمة، كما يلفت الانتباه غزارة نمو أشجار الأراك التي يصنع منها السواك برائحتها الزكية وشكلها المميز، ويشاهد الزائر أشجار النخيل الجميلة.
تسود المكان رهبة، ويغلفه سكون مهيب تكاد تسمع صرخات الرجال والنساء اللذين خُيّروا ما بين الرجوع عن دينهم أو الحرق فاختاروا الموت، ترى أكفهم منقوشة على صخور بيوتهم المهجورة، تكاد تشم روائح جلودهم المحترقة وعظامهم المتفحمة، تلوح لك ذكرى هذا الطفل الذى هون على أمه الموت عندما ترددت في القفز في هذه النار الموقدة فشجعها قائلاً: “اصبرى يا أمي فإنك على الحق”،) ثم ببسالة نادرة لحق بها في النار. قد يقشعر جسدك لمجرد الفكرة فما بالك إن تعثرت قدماك فجأة لتجد أمامك عظاماً هشة، وآثار رمادها في الصخور وعلى الجدارن المحيطة.
يمكنك أن تشاهد ماتحتويه منطقة الأخدود من آثار الحياة اليومية لسكان هذه المدينة الحزينة، مثل القطع الحجرية المستخدمه في الطهي كالأواني الفخارية وأحجار الرحى، ومنطقه السوق التجاري، وبعض الكتابات والنقوش المحفورة على الصخر بالخط المسند الذي كان يستخدمه عرب الجنوب، وبعضها بخط البادية المعروف بالثمودي، بالإضافة إلى عدد كبير من الرسوم الصخرية، وبعض الكتابات الإسلامية الكوفية المبكرة، وعدد قليل من الكتابات المكتوبة بالخط النبطي.
وفي كثير من الأحيان يمكنك أن تشاهد على واجهة الصخرة الواحدة عدداً من النقوش الثمودية والسبئية، وأحيانا نقوشا إسلامية كوفية، كما توجد نقوش مكتوبة بالخط المسند والخط الكوفي على صخرة واحدة، إضافة إلى ذلك توجد نقوش مسندية فوق نقوش ثمودية.
وتسعى مدينة نجران ضمن جملة بعنوان “الأخدود أرض الحضارات” يدعمها مجموعة من المثقفين والإعلاميين لدعم مشروع تسجيل منطقة الأخدود الأثرية في منظمة اليونسكو بصفتها واحدة من مواقع أقدم الحضارات.