البيان الإماراتية ـ في اتجاه الغرب من مدينة الإسكندرية، على ساحل البحر الأبيض المتوسط ، نصل إلى نهاية جزيرة فاروس؛ حيث غنت فيروز «شط إسكندرية»، إحدى أهم ما يميز عروس البحر، نجد بناية عالية وقفت في مكان «الفنار القديم» لمدينة الإسكندرية.
إنها «قلعة قايتباي» التي لم يُثمّنها أحد سوى الأثريين لما عرفوه هناك من كنز مُلقى على ساحل المتوسط، إنها منطقة غنية بالتاريخ، كأنها متحف مفتوح لا يجب أن تفوتك زيارته، فيمكن أن نأخذ طريقنا إلى نهاية الكورنيش في منطقة الأنفوشي الشعبية القريبة من ميدان المنشية والأقرب إلى أحياء الإسكندرية القديمة وسوق السمك بها.
ترجع أهمية «قلعة قايتباي» إلى موقعها الاستراتيجي، فهي تقع في أقصى غرب الإسكندرية في الموقع الذي احتله فنار الإسكندرية القديم الذي أنشئ العام 280 قبل الميلاد فى عصر بطليموس الثاني.وقد أصبح اسم جزيرة فاروس Pharos عَلَمًا على اصطلاح فنار في اللغات الأوربية، واشتُقَّت منه كلمة فارولوجي Pharology للدلالة على علم الفنارات ، وقد اعتُبر الفنار إحدى عجائب الدنيا السبع، فلم تعرف الدنيا قبله فنارًا بهذا الحجم أو الارتفاع الكبير الذى قيل إنه بلغ ثلاثين طابقًا، وقدروه بأنه يزيد على 120 مترًا، ويعلوه تمثال ضخم للإله بوسيدون ، إله البحر عند الإغريق، وهو عبارة عن تمثال رجل بذيل سمكة، وكانت مرآة الفنار تعكس الضوء من مسافة 70 ميلا وهو ما يعد تقدمًا تكنولوجيًا غير مسبوق فى زمانها، ولم يعرف أحد كيف صنعها المصريون القدماء؛ لذا عندما تحطمت في العام 700م لم يستطع أحد صنع بديل لها وتوقف عمل الفنار من ذلك الحين إلى أن حدث الزلزال الكبير الذى دمر أجزاء كبيرة من مدينة الإسكندرية في زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون في العام 1375، وراحت معه بقية الفنار، ورغم بعض أعمال الترميم التي حدثت له فإنه تهدَّم تمامًا.وهناك اعتقاد كبير بأن أجزاء كبيرة من حجارة الفنار الجرانيتية والجيرية استخدمت فى بناء القلعة التى أمر السلطان الأشرف، قايتباي، ببنائها مكانه فى العام 1477م. وذلك لما لهذا الموقع من أهمية استراتيجية أسهمت في حماية الإسكندرية.
وقد لعبت هذه القلعة دورا مهما في التاريخ المصري لقرون تالية، فقد مثلت البوابة الشمالية لمصر، لكن بضعفها، الذي نتج عن ضعف الدولة العثمانية، استولى نابليون بونابرت على الإسكندرية، ومنها احتل مصر كلها، أما في عصر محمد على باشا فعادت إليها قوتها مرة أخرى من خلال اهتمامه بها صيانة وتجديدًا و تحصينا ، كما وزوَّدها بالمدافع الساحلية، ما جعلها من أشهر القلاع العسكرية في منطقة البحر المتوسط، إلى أن جاء الاحتلال الإنجليزي لمصر العام 1882، وتعمَّد تخريبها، وإحداث تصدعات بها إلى أن امتدت إليها يد الترميم فى بدايات القرن العشرين.
عدسات الزيارة
كن مستعدًا بكاميراتك التي ستسجل معك كل خطوة داخل بحر الكنوز الذي يبدأ بالممشى البحري المؤدي إلى القلعة، والذي يصلها بالإسكندرية؛ حيث تحرسه من الجانبين قوافل من المراكب الصغيرة مكونة لوحة جمالية بديعة.
حتى الممشى نفسه يمثل كوكتيلا ثقافيا، فيمتلئ بالسائحين إلى جانب العديد من الباعة الذين يقدمون خدمات مدفوعة الثمن من تصوير أو هدايا تذكارية مصنوعة يدويًا من أصداف البحر، بالإضافة إلى المشروبات الغازية والتسالي.
وكأننا فى كرنفال شعبي كما يتناثر الشباب على جانبي الممشى متمنين أن تدوم قصص حبهم كما دامت قلعتهم التى غالبا ما يُشهدونها بعد ذلك على حفلات زفافهم حيث يحرصون على التقاط صور لهم أمام القلعة.
أما القلعة ذاتها فقد استغرق بناؤها عامين تقريبًا، وتكلّفت أكثر من مائة ألف دينار، وهو مبلغ هائل في ذلك العصر، وهي بناء كبير يشغل مساحة تقارب الأربعة أفدنة، مربعة الشكل تقريبًا.
ولأنها على جزيرة، فالبحر يحيط بها من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة فهي الممشى الطويل الذى يصلها باليابسة، وتحتوى القلعة على أسوار عالية مزدوجة، فالسور الأول هو السور الخارجي، ويحيط بالقلعة من جهاتها الأربع . وفى رحلة دائرية حول القلعة يتضح أن الضلع الشرقي من هذا السور يُطل على البحر، ويبلغ عرضه مترين، وارتفاعه ثمانية أمتار، ولا يتخلله أي أبراج، أما الضلع الغربي، فسُمكه أكبر من باقي أسوار القلعة، يتخلله ثلاثة أبراج مستديرة، ويعد هذا السور أقدم الأجزاء الباقية، أما الضلع الجنوبي فيطل على الميناء الشرقية، ويتخلله ثلاثة أبراج مستديرة.
ونصل إلى الضلع الشمالي الملامس للبحر مباشرة، وينقسم إلى قسمين، الجزء السفلي منه عبارة عن ممر كبير مسقوف بُني فوق الصخر مباشرة، به عدة حجرات، أما الجزء العلوي فهو عبارة عن ممر به فتحات ضيقة، ويشمل ثكنات الجند ومخازن السلاح.
أما الأسوار الداخلية للقلعة فتحيط بالبرج الرئيسي من جميع جهاته، ما عدا الجهة الشمالية، ووراء هذا السور من الداخل مجموعة من الحجرات المتجاورة أعدت كثكنات للجند، وهي خالية من أي فتحات عدا فتحات الأبواب وفتحات للتهوية وللدفاع عن القلعة.
وهنا نصل بكاميراتنا إلى البرج الرئيسي للقلعة الذى يقع فى الفناء الداخلي بالناحية الشمالية الغربية من مساحة القلعة، ويصل ارتفاعه إلى 17 مترًا، وهو عبارة عن بناء مكون من ثلاثة طوابق، تخطيطه مربع الشكل يخرج من كل ركن من أركانه الأربعة برج دائري يرتفع عن سطح البرج الرئيسي، وقد بُني البرج بالحجر الجيري الصلد.
[ad#Ghada648x60]
طراز إسلامي
والقلعة نموذج للقلاع إسلامية الطراز، فبها العديد من الشرفات العالية على مستويين، المخصصة لرماة الأسهم من الجنود، وبالطبع فإن بها مسجدًا يشغل الطابق الأول يعد من أقدم مساجد المدينة، ويتكون من صحن مكسوة أرضياته برخام ملون ذي تكوينات هندسية رائعة، وأربعة إيوانات.
وكانت له مئذنة ولكنها انهارت، كما أن بالقلعة العديد من الممرات المخصصة لتنقلات الجنود لتسهل حركتهم أثناء المعارك، وصعودًا من خلال سلم حجري قديم نصل إلى الطابق الثاني الذي يضم قاعات داخلية وحجرات للقادة، أما الطابق الثالث فبه مقعد أو مجلس السلطان «قايتباي» الذي كان يقيم به، ومنه يستطيع مراقبة السفن.
وقد ضمت القلعة كل ما يحتاجه الجنود خلال إقامتهم من طاحونة لطحن الغلال، وفرن لإعداد الخبز، وتم حديثًا اكتشاف خزَّان مياه ضخم مبني أسفل القلعة؛ ليضمن المياه الحلوة للجنود.
, تتجول الكاميرا خلال تفاصيل جمالية في التصميم، لكن المشهد الذى سيأسر الألباب هو المنظر الطبيعي لشاطئ المدينة، الذي تطل عليه القلعة من أكثر من جانب، وقد أجريت عمليات ترميم لجوانب القلعة؛ لتدعيم بعض جوانبها حماية من مياه البحر.
متحف الأحياء البحرية
ومن أجمل المشاهد بمنطقة القلعة «متحف الأحياء المائية» الذي يقع إلى جوارها، ويعمل على فترتين، صباحية ومسائية؛ نظرًا للإقبال الكبير عليه خاصة من جانب السائحين على الرغم من صغر مساحته، وافتقاره إلى التحديث الذي يليق به.
وقد أنشئ هذا المتحف العام 1930م كجزء من معهد لدراسة الأحياء المائية بالبحار والبحيرات المصرية، ويتكون من جزأين، الأول به مجموعات كبيرة من الأسماك بمختلف أنواعها في أحواض مغلقة، والثاني مفتوح ويحتوي على هياكل محنّطة وحفريات لأحياء مائية وكائنات بحرية بديعة مع شرح وافٍ للمعروضات كافة.
ومن أبرز المعروضات التي تجذب الانتباه هيكل لسمكة عروس البحر التى ركزت كل الأساطير القديمة على أنها سمكة نصفها العلوي لجسم بشري، ولكن نصفها السفلي ذيل سمكة، كذلك هناك هيكل عظمي ضخم معلق لحوت صغير السن ولكنه كبير حجمًا، فطوله يصل إلى 17 مترًا على الرغم من أن عمر الحوت يقدر بعام وشهرين، أي أنه «بيبي حوت»، وموطنه الأصلي بالمحيط الأطلسي، فكما هو معروف أن البحر الأبيض المتوسط ليس موطنًا للحيتان، ولكن هذا الحوت ضلَّ طريقه، ودخل منطقة مضيق جبل طارق إلى أن جنح إلى منطقة رشيد.
كما يضم المتحف العديد من المجسمات التى تمثل أعماق البحر خاصة البحرين الأبيض المتوسط والأحمر بما فيهما من شعاب مرجانية وكائنات بحرية وأسماك متنوعة، إضافة إلى مجموعة من الحفريات البحرية التى ترجع إلى ملايين الأعوام. كذلك مجموعة رائعة من الشعاب المرجانية والقواقع والأصداف البحرية النادرة، وفي العام 2004 انضم إلى المتحف نموذج محنط لسمكة الشمس النادرة، وهى تشبه قرص الشمس، ويصل وزنها إلى 1000 كيلو جرام تقريبًا.
و لأنها تضم في محيطها العديد من الاكتشافات الأثرية المتنوعة بين فرعونية وإغريقية ورومانية وإسلامية، فقد عد الأثريون منطقة قلعة قايتباي كنزًا فريدًا، إذ وجدوا العديد من التماثيل الغارقة وأجزاء من مسلات فرعونية يرجع تاريخ بعضها إلى ألف عام قبل بناء الفنار.
و ما زال البحث جاريًا عن أجزاء من الفنار القديم المنهار، الذي وجد الأثريون، بالفعل، العديد من أحجاره الضخمة الغارقة، التي يصل وزن بعضها إلى 75 طنًا، والتي يُرجَّح أنها من أجزاء الفنار التي انهارت خلال الزلزال الذي حطمها.
[ad#Ghada Links]