عند الخروج من الصحراء البيضاء، وبين امتدادات الثلوج الحجرية وخيالاتها الساكنه يلوح الطريق الأسفلتى كأفعوان ضخم أسود يتلوى فى تلك الصحراء البيضاء البريئة كعدوٍ داهم سكان قرية آمنين فروّعهم، وقد يفسر ذلك رغبة الزائر دوماً فى مد زيارة الصحراء البيضاء والعزوف عن مغادرتها إلى ما بعدها فهى للزائر قمة ما قد يخطر بباله من سلام وسكينه أبرمتهما الطبيعة قديماً مع الانسان.
يُمثل الخروج من الصجراء البيضاء إلى الواحة القريبة الفرافرة تحدياً لكل سائقى السفارى، فكل ما حوله يبعث على الشك فى صحة الطريق؛ ففى الصحراء البيضاء أنجبت الطبيعة الأم ملايينا من التوائم المتماثلة، لونهم واحد وأصلهم واحد، إلا أنهم لكل سائق خبير متباينون جل التباين، ولكل منهم أسلوبه وخبرته فى إيجاد طريقه فى تلك المتاهه البكر دون أن يخدش لها حياءً أو تصدر منه هفوة أو ذلل.
ويخرج الزائرون غالباً من أحد المدقات المُعدة لهذا الغرض، والذى يقع على بعد 30 كيلومتر من أصغر الواحات المصرية في الصحراء الغربية، الفرافرة، فى منتصف الطريق بين الواحة السابقة (البحرية)، والتالية (الداخلة).
اعتمدت الفرافرة، التى كانت إحدى محطات طريق القوافل دائماً على واحة البحرية بطريقة أو بأخرى، وقد ورد اسمها فى النصوص المصرية القديمة التى ترجع إلى عهد الاسرة الخامسة الفرعونية 2600 قبل الميلاد، وكذلك فى قصة الفلاح الفصيح الشهيرة التى جرت أحداثها خلال الأسرة العاشرة الفرعونية2100 ق.م.
واسم الواحة القديم هو (تا ايحه) بمعنى أرض البقرة، وهو اسم قد يكون مرتبطا بصورة أو بأخرى بالإلهة حتحور التى كانت إلهة للأمومة وكانت تصور دائماً على هيئة بقرة. أما أصل اسم الفرافرة فهو غير معروف، وقد ورد الاسم القديم كذلك فى معبد الأقصر بين قائمة بأسماء الأماكن التى كانت تنتج المعادن والبلح فى عهد الملك رمسيس الثانى.
منخفض الفرافرة
منخفض الفرافرة هو أكبر منخفضات الصحراء الغربية، ويتخذ شكل مثلث غير منتظم الأضلاع يتجه رأسة إلى الشمال؛ بحيث أن عرضه يتسع كلما اتجهنا إلى الجنوب. ويمتد من الشرق إلى الغرب مسافة 90 كيلومتر، بينما يحتل من الجنوب إلى الشمال حوإلى مساحة 200 كم طولاً. والقرية الوحيدة فيه هي قصر الفرافرة، وبُنيت على مرتفع يعلو عشرة أمتار عما حوله، ويعلو 76 متراً عن مستوى سطح البحر، أما أرضية المنخفض فيتراوح ارتفاعها عن مستوى سطح البحر بين 70و 91 متراً.
وصحياً تعتبر الفرافرة أفضل الواحات فبعدها عن أماكن الزحام والأنشطة الصناعية بالمدن الكبرى، بالإضافة إلى دور الكساء الاخضر من مزروعات النخيل والزيتون والمحاصيل المختلفة فى تنقية الأجواء، جعل قابلية الفرافرة للاستغلال السياحى محل دراسة واعتبار إذا توافرت طرق مواصلات سريعة ومختصرة إلى الأماكن الحضرية.
آثار الفرافرة
رغم قدم وجود الإنسان فى الفرافرة، وذكرها أكثر من مرة فى النصوص التاريخية القديمة، إلا أنها لا تحتوي على أى من الآثار المعروفة أو المُكتشفة؛ حيث يبدو من مجريات الأحداث أن أهمية الواحة قديماً تتلخص فى كونها إحدى نقاط التزود بالمؤن على طريق القوافل القديمة من السودان إلى وادى النيل للتبادل التجارى مع أفريقيا. لكن قد يعتبر حصن الواحة القديم الذي يُسمى “القصر”، والذى يستوى الآن مع الأرض أهم أثر معروف للواحة فى تاريخها الغامض.
وقد شيد فى العصور الوسطى، وكان يبلغ ارتفاعه 10 أمتار، وهو حصن دفاعى بناه سكان الواحة المسالمون ليقيهم شر البدو المغيرين الذين اعتادوا نهب محاصيلهم وحيواناتهم، وكان يحتوى على بئر، وما يقارب 116 حجرة مخصصة لعائلات وأسر الواحة لأغراض التخزين، ولكل واحدة بابها المصنوع من الجريد أو جذوع النخيل. ومنذ عام 1945 وبسبب هطول الأمطار الغزيرة تهدمت بعض جدران الحصن، ولما لم تبذل أى محاولة لترميم جدران الحصن أو تدعيمه انهار البناء فى عام 1958، والطريف أن آخر حراس الحصن كانت امرأة تسمي سعيده.
بدر عبد المغنى أحد سكان واحة الفرافرة، ويعمل مدرساً بإحدى مدارسها، ولكنه امتلك منذ طفولته موهبة فنية مبكرة فى نفس الوقت الذى لاحظت عيناه فيه التغير الذى يغزو الواحة ويدفعها بعيداً عن تراثها وإرثها الحضاري والتاريخي، فجرد موهبته المغمورة وصاغ تاريخ واحتها وإرثها قطعاً منحوتة من الحجر والخشب وجريد النخل، بالإضافة إلى العديد من اللوحات التى يُطلق عليها “لوحات الاكوريل”. وقد دفعه عشقه لواحته ورغبته الشديدة في حفظ تراثها ومجابهة الغزو الحضرى الذى كاد أن يقضى على عذرية وبكورة الواحة إلى أن يتقاعد من عمله مبكراً للتفرغ لأعماله الفنية.
ولا يخلو أي برنامج لزيارة للفرافرة من زيارة لمتحف بدر عبد المغنى فهو قبلة للسائحين حيث ينعم الزائر برؤية فنان مغمور لكنه أصيل. ولبدر شهرة عالمية لكنها محدوده بزيارات لدول أوربية كألمانيا والنمسا والولايات المتحدة الامريكية؛ حيث أقيمت له بعض المعارض التى حازت على إعجاب الزائرين وانتباههم.
حدائق وحقول الفرافرة
تُقدر الأرض المنزرعة بالفرافرة بحوالي ثلاثين ألف فدان من زراعات النخيل والزيتون والخضروات، وتُروى بمياه العيون المتشرة فى الواحة، والتي يدر بعضها الماء منذ العصر الرومانى فى مصر إلا أنها اليوم تُدار بمضخات. ولا توجد صناعات محلية ذات أهمية؛ حيث يعمل معظم السكان بالزراعة، والصناعات التقليدية كعصر الزيتون وتجفيفه بالطريقة القديمة، والسلال والفخار ونسج القطن محليا. ورغم الازدهار النسبي الذى تنعم به الفرافرة حالياً فإن عائلاتها لا تزال تعيش فى المنازل القديمة البسيطة، ولا يزالون يقيمونها على نفس الطراز القديم.
وتجرى فى عروق أهل الفرافرة دماء ليبية وعربية أكثر من سكان البحرية والداخلة، وملابسهم وعاداتهم أقرب ما تكون بملابس البدو وعاداتهم. وقد يقترب عدد السكان من عشرة آلاف نسمة بعضهم من سكان الواحة الأصليين، إلا أن الغالبية من المهاجرين حديثاً من دلتا النيل أو من صعيد مصر للاستصلاح الزراعى.
الصور: 1
[ad#Ghada648x60]