Booking.com

يرتفع الجلف الكبير كحائط في عمق الصحراء، وهو موقع معزول لا يتردد عليه السياح كثيراً مقارنة بآثار مصر المعروفة، حيث لا يزور تلك المنطقة إلا عدة آلاف من السياح كل عام متتبعين آثار مكتشفي الصحراء والبدو الرحل وعلماء الآثار.

تبدأ الجولة الاستكشافية التقليدية في تلك المنطقة عادةً برحلة طويلة بالحافلات من القاهرة إلى الواحات الداخلة، وتبدأ الرحلة إلى منطقة  الجلف الكبير عبر أبوبالاس التي كانت تستخدم للقوافل المتجهة إلي ليبيا محملة بأوان فخارية كبيرة محملة بالمياه والوقود‏، والتي اعتاد البدو المغيرون على المنطقة اصطحابها معهم ممتلئة بالمياه على ظهور الدواب وتخزينها على مراحل متباعدة من مسافات الرحلة لتأمين التزود بالمياه لوعورة الطريق وندرة آبار المياه.

الطريق من أبوبالاس

يمر الطريق إلى أبوبالاس بآلاف من الأواني الفخارية المكسورة

ويمكن الوصول إلى أبو بالاس من الواحة الداخلة، وللوصول إليها ستسير بجوار الآلاف من الأواني القديمة المكسرة وشظايا الفخار المنتشرة على تلة اكتشفها الأمير كمال الدين (أحد أمراء العائلة الملكية في مصر) في أوائل القرن التاسع عشر، ويعود الفخار المتناثر إلى قوارير مصنوعة من السيراميك يعود تاريخها إلى فترة الاحتلال الروماني لمصر. وكانت أبو بالاس محطة رئيسية على امتداد طريق القوافل الذي يربط وادي النطرون بجنوب غرب مصر.

ومن أبوبالاس يتجه السياح المغامرون جنوباً إلى هضبة الجلف الكبير يبحثون عن تراث الإنسان الأول الذي كان يطهي مأكله علي نار الحطب، ولمشاهدة الرسوم علي الصخور والتي تعود لآلاف السنين‏، والتي رسمها وهو يتقى غضب الطبيعة، أو يخشى افتراس الحيوانات المتوحشة التي عجت بها يوماً دروب المنطقة التي كانت يوما غابات وأحراشاً كثيفة.

هضبة الجلف الكبير

تقع هضبة الجلف الكبير علي بعد ‏1600‏ كيلو متر من القاهرة‏،‏ وتمتد بطول ١٧٥ كيلومتر وعرض ١٢٥ كيلومتر، وبارتفاع ٣٠٠ متر عن سطح الصحراء حوله، علي حدود مصر مع ليبيا والسودان. وتضم سهولاً شاسعة للكثبان الرملية والكهوف تعود لعصور ما قبل التاريخ‏، وتقع هذه السهول بين هضبة الجلف الكبير وجبل العوينات‏،‏ وتصل مساحتها إلى ‏48‏ ألف و‏523‏ كيلو مترا‏،‏ وتضم صخوراً رملية وفوهات بركانية قديمة ومناطق جبلية وودياناً عميقة وسلاسل بحر الرمال الأعظم الممتدة طولياً من الشمال إلي الجنوب.

هضبة الجلف الكبير

تمتد هضبة الجلف الكبير بطول 175 كيلومتر وعرض 125 كيلومتر

 وهي واحدة من كبري المحميات الطبيعية لمساحتها الكبيرة، وما تحتويه من كنوز وكهوف صحراوية وجبلية ومناظر خلابة جعلت منها مقصداً للسياح المغامرين ومحبي سباق السفاري والصعود لقمم الجبال. وتتخذ الهضبة شكل المثلث يصعده السائح ليجد قمة منبسطة جدباء بلا حياة، مسطحها بمساحة تقترب من مساحة سويسرا، وهو يشاهد بسيره علي السطح مناظر خلابة ووديانًا شقتها الرياح والمياه في عصور ما قبل التاريخ.

هضبة الجلف الكبير

مساحات منبسطة من الصحراء تحيط بهضبة الجلف الكبير

وتعتبر هذه المنطقة الأكثر جفافاً على سطح الأرض، وتدل آثارها على المناخ الممطر القديم الذي ساد خلال العصر الحجري الحديث‏، ‏ والعصر الحجري القديم منذ نحو ‏120‏ ألف سنة قبل الميلاد‏، ‏وتغطي سطح الجلف بلاطات بازلتية ويمتد فوقها مجري نهر واحد علي الأقل، وتشق الوديان هضبة الجلف من جميع جوانبها وأكبرها وادي عبدالملك الذي يمتد شمالاً وجنوباً، والعديد من الوديان الأخرى كوادي بخت ووادي واسع  تمتد من جوانبه ووديان أخري لها كثبان حمراء (وادي حمرا)، وهذا يفصل جبل الجلف الكبير إلي جزأين بينهما عنق أطلق عليه العقبة. وهذه المناظر الخلابة تعوض السائح عما صادفه من مشقة ومخاطر.

وادي عبد الملك

وادي “عبد الملك” من أشهر وديان هضبة الجلف الكبير

آثار الإنسان الأول

تحتوي المنطقة على تراث ثقافي للإنسان القديم إضافة لقيم دينية وجمالية وطبيعية فريدة، حيث يمثل الموقع منطقة من مناطق التراث الطبيعي العالمي والتابعة لمنظمة اليونسكو بما لها من ثقل تاريخي وانثروبولوجى تليد.

نقوش كهف صورة

نقوش من آلاف السنين في كهف “وادي صورة”

وتنتشر عند الحافة السفلي لهذه الهضبة كهوف توجد بداخلها رسوم ملونة لإنسان العصر الحجري لصيادي الأبقار‏،‏ ومنها رسومات للحيوانات التي كانت تعيش في هذه المنطقة شبه الاستوائية منها الزراف والفيل ووحيد القرن أو سيد قشطه. ومن أشهر كهوف هذه المنطقة كهف “وادي صورة” وهو كهف كبير يرتاده الرحالة والباحثون في آثار ما قبل التاريخ‏،‏ وكهف المستكاوي الذي يحوي أكثر من ‏2000‏ صورة من النقوش ورسوم الإنسان الأول، وأشهرها “كهف السباحين” الذي اكتشفه ووثقه الأرستقراطي المجري، مستكشف الصحراء، الكونت لاسزلو ألماسي في عام 1929. وقد خُلد الكونت و كهف السباحين في الفيلم الشهير “المريض الإنجليزي” الذي اقتبس عن رواية للكاتب السريلانكي مايكل أونداتجي.

رسوم الإنسان الأول في الكهوف، الجلف الكبير

رسوم الإنسان الأول في كهوف الجلف الكبير

إضافة إلى ذلك تحوي المنطقة العديد من الكهوف الخلابة والمناظر الطبيعية الثرية، والعديد من الآثار الفرعونية ورسومات تعود لما قبل التاريخ‏.‏ وتعد المنطقة غنية بكل المقومات الطبيعية الخالية من التلوث البيئي بسبب روعتها وبكورتها واحترام السائحين لإرثها؛ حيث تجتذب المحمية سائحي الثقافة والعلم والمغامرات بالإضافة إلى محبي تتبع التاريخ الجيولوجي للكرة الأرضية مقارنة بغيرهم من السائحين ذوى الميول الثقافية الضعيفة.

من الرسوم البدائية في الكهوف

من الرسوم البدائية في الكهوف

وتضم المنطقة مجموعة من المناطق ذات الأهمية الاقتصادية والسياحية‏، فهناك منطقة السليكا الزجاجية التي تكونت منذ ‏28‏ مليون سنة نتيجة لضرب المنطقة من قبل نيزك هائل وضخم مما أنتج زجاج السيليكا الشهير والثمين بسبب فعل حرارة الرمال في الصخور الرملية، وقد يجدر الإشارة إلى إن أحجار السيليكا المجلوبة من المنطقة هي أجمل الأحجار الكريمة التي تزين قناع الملك الشاب الأشهر بين ملوك الفراعنة توت عنخ آمون.

زجاج السيلكا، الجلف الكبير

من منطقة السليكا الزجاجية الغنية

و معظم السياح لديهم خلفية ما عنها بواسطة الجيولوجيا وتتبع الآثار، أو على الأقل حب هذا النوع من المغامرة.. يبحثون عن آثار لعصور ما قبل التاريخ إضافة لأدوات كان يستخدمها الإنسان القديم كالسكاكين الحجرية وأحجار الطحن البدائية التي استعملها الإنسان الأول لطحن وجرش غذائه من الحبوب، وكذلك يحب عدد من رواد السفاري طبيعة بحر الرمال المنساب على مساحات شاسعة وحب المشي في الصحراء لمدة 12 يوما على الأقل، ويعود اكتشاف ‏ بحر الرمال العظيم إلى الأمير كمال الدين حسين عام ١٩١٧ ويمتد من الشمال بطول ٦٥٠ كيلومترًا زاحفًا جنوبًا علي الجلف الكبير كاسياً جزءًا كبيرًا من جانبيه الشمالي الشرقي. وربما كان باستطاعة زوار هذه المنطقة مشاهدة الأجراس الثمانية وهي سلسلة من التلال القريبة والتي كانت مهبطاً حربياً خلال الحرب العالمية الثانية.

بحر الرمال الأعظم

يمتد بحر الرمال العظيم بطول 650 كيلومتر

أما واحة زرزورة المفقودة، فلا يظهر اسمها على أي من خرائط الرحلة، فهي تمثل أهم الأساطير المرتبطة بالمنطقة. ويُقال أنها كانت المدينة البيضاء الناصعة في هذه الصحراء، وعلى أبوبها قد نُحت طائر (الزرزور طائر معروف في مصر)، وفي منقاره مفتاح تلك المدينة وما فيها من كنوز.

دليل الزيارة

يفضل زيارة منطقة الجلف الكبير في الشهور الباردة من السنة أي من شهر أكتوبر إلى شهر مايو، حيث يمكن أن تصل درجة الحرارة في الصيف إلى 35-45 درجة مئوية كحد أقصى. وهناك السائحون مخيمات مؤقتة لليال محدودة يقيمون خلالها في خيام أثناء ترددهم على الوديان والكهوف التي تخفي كنوز وأسرار تلك الهضبة. وفي المنطقة ينعدم الاتصال بأي من المناطق الحضرية في الواحات القريبة ويتم الاعتماد على أنظمة الستالايت في الاتصال حيث تنعدم إشارات الهواتف الخلوية بالإضافة إلى التزود بكل مئونة الرحلة من الأطعمة ومياه الشرب، بالإضافة إلى الوقود اللازم لعربات الدفع الرباعي وحصائر الغرز لمقاومة الكثبان الرملية وقبله الاعتماد على الله.. فهي رحلة إلى غياهب الزمن… لتتبع مواطن الإنسان الأولى.

شارك برأيك