نترك الصحراء السوداء إلى الصحراء البيضاء، كمن يخطو إلى الخيال… يمتد ذلك الطريق الأفعوانى الذى كان يوماً ما درباً من دروب القوافل القديمة، حتى يصل بعد 180 كيلو متر إلى واحة الفرافرة، أصغر واحات مصر وأشدها عزلة.
في الطريق من الواحات البحرية في اتجاه الفرافرة تتكحل الأعين بتلك الامتدادات السوداء الخلابة التى تشكل الصحراء السوداء والتى تعطى الانطباع أن ما سوف يأتى عالم من المجهول، لكنه عالم نشوة وتأمل لا رهبة وخوف… الصحراء البيضاء.
قبل الوصول إلى الصحراء البيضاء التى تقع على بعد 35 كيلو متر قبل واحة الفرافرة، لا تتم المتعة دون زيارة جبل الكريستال، ذلك الجبل الذى تنتظم في جنباته كحبات اللؤلؤ ذرات من الرمال التى تكلست بفعل الرطوبة والحرارة، وذلك عبر ملايين من السنين لتعطى ذلك المنظر الخلاب لصخور تنافس الحُليّ في إبداعها إلا أنها تعلو عليه في القيمة العلمية والتاريخية فهى شاهد على حكمة الصحراء وطول عهدها بالوجود.
تقع الصحراء البيضاء إدارياً في نطاق محافظة الوادى الجديد التى تضم الواحات الثلاث؛ الفرافرة، الداخلة، وتنتهى بالخارجة عاصمة المحافظة. وهى جغرافياً نطاق كبير يربو على 3000 آلاف كيلو متر مربع، ولكنها تتنوع فيها البيئات الصخرية والأشكال الحياتية تنوعاً غريباً يبدو واضحاً لمن يسبر أغوارها بعربات الدفع الرباعى.
والصحراء البيضاء عبارة عن تكوينات رسوبية وطباشيرية تكونت بفعل رسوبيات الكائنات البحرية التى درجت وعاشت بالمنطقة منذ ما يزيد على 40 مليون سنة، عندما غطى المحيط (التيثى) العظيم، والذى كان امتدادا للبحر المتوسط، الجزء الاكبر من الصحراء الغربية المصرية، وذلك يفسر وجود القواقع البحرية بها وأجزاء من الشعاب المرجانية في الصحراء الممتدة من البحر المتوسط في الشمال وحتى صعيد مصر في الجنوب.
وللصحراء البيضاء رونقها الخاص وشخصيتها الفريدة؛ فهى بيضاء بياض الثلج، صلبة صلابة الصخور، وليست سطحاً مستوياً على الدوام بل تنتصب فيها الأشكال الصخرية والتكوينات الطباشيرية الرسوبية التى تظهر ككائنات حية لكنها ساكنة، فالمرء في الصحراء البيضاء في متحف طبيعى، ومسرح بِكر من الخيالات والأشكال التى تقدح زناد الفكر ليتخيل فيُعبر ويرى فيَعجب، فلا يوجد مكان على وجه الارض يثير في النفس ذلك الإحساس بعذرية الطبيعة وتجددها.
وترجع روعة الصحراء البيضاء كمتحف طبيعى أن النحات في هذه الحالة كان الطبيعة، فبعد الجفاف الذى أصاب المنطقة قبل ملايين السنين وبسبب تراجع البحر، ظلت تلك الصخور عُرضة للتعرية والنحت بفعل الرياح المحملة بالرمال والتى صاغت أشكال الصخور بلا خلل كأروع ما يكون الفن، ولزائر المنطقة بما له من خيال خصب وقريحة مستثارة بسسب ما يراه من إبداع، أن يتخيل ما تراه عيناه من أشكال فنية لا تحتاج دراية فنية ولا خلفية علمية إلا ما تحويه قريحة الإنسان من حب فطرى للجمال وتقدير لبديع صُنع الرحمن جل وعلا.
يُنصح بزيارة الصحراء البيضاء بعد انكسار شمس الظهيرة خاصةً لمن يحب التصوير، فلون الصخور والتكوينات الرسوبية من حوله تجعل تصويرها في ضوء الشمس شيئاً من قبيل العبث لأنها تفقد جمالها بل وقد تفقد معالمها، كما يُستحب للزائر الصحراء أن يخيم فيها للتعرف على سكان المنطقة من حيواناتها الحيية ومُعمروها العِظام الذين وقفوا في وجه الجفاف والحرارة لا يدفعهم إلا ألفتهم للصحراء ببياضها الناصع، وأولهه ثعلب الفنك الشهير الذى من خفة ظله يميل دوماً إلى خطف الاحذية ليلاً معتقدا انها طعام لذا فالأفضل أخذ الاحذية إلى داخل الخيمة.
ولا يطيب المُخيم في الصحراء البيضاء، خاصةً عندما يكتمل القمر وتضئ الصحراء كأن الوقت نهاراً، دون الشِواء فللشِواء في أحضان الصحراء البيضاء في ظل الحضور من ثعالب الفنك بأعينهم اللامعة مذاق خاص؛ حيث تجلب الرائحة الكثير من الثعالب التى تلتف في توجس حول المخيم لالتقاط ما يجود به الكرم الإنسانى من اللحم والعظام وهو بالنسبة للثعالب، في تلك المنطقة القاحلة، يوم عيد.
ولفأر الصحراء أو اليربوع مكانة خاصة عند السائحين،وهو شئ قد لا تألفة الطبيعة العربية،لكنه بسبب جرأته وألفته للبشر وتقدمه من مجالسهم لتحصيل الطعام يكون دوماً موضوع تندر السائحين وحديثهم خاصة إذا تطرق الامر إلى إمساكه، وهولا يمانع، وهدهدته كالحيوانات الاليفة.
وكم تطول الحكايات والأحاديث حول النار في الصحراء خاصة إذا توفر في المكان بعض سكان الواحات بأحاديثهم الممتعة، وحكاياتهم الأسطورية عن الطبيعة والصحراء، وأغانيهم وأشعارهم التى تُعبر عن صفاء نفس أثقلتها التجارب.
[ad#Ghada Links]