كل ما في هذا الفندق الاستثنائي لا بد وأن يشعرك برفاهية تشبه رفاهية الحياة داخل فيلم أو رواية رومانسية تتداخل فيها العصور لمصلحة ذوقك ورغبتك. وبعلى عكس آلاف الفنادق النمطية حول العالم، ذات الغرف والمرافق والخدمات الشبيهة بـ “القص واللصق” من فنادق تكاد تماثلها تمامًا مهما بلغت مستويات الرفاهية ورعاية النزلاء فيها؛ يأتي هذا المكان الفريد بروح تتجاوز مجرد التميز في الأجواء المكانية بالتصميم والأثاث إلى التميز بالأجواء الزمانية التي ترجع بمخيلتك إلى قرون ساحرة مضت.
نلت فرصة الإقامة شخصيًا في ” ليمانوار ” خلال الرحلة الصحفية التي استضافت “موسوعة المسافر” ممثلة للإعلام السياحي السعودي برفقة جهات عالمية أخرى للاطلاع على ثقافة الطعام في بريطانيا، وكانت الساعات الأربع والعشرين التي قضيتها في هذا المكان الفردوسي من أجمل الساعات التي ربحتها في حياتي، والتي أتمنى قضاء مثلها في المكان ذاته مستقبلاً بإذن الله.
يقع هذا النُزُل في منطقة هادئة من “أوكسفورد” التي تبعد عن لندن مسافة 60 دقيقة بالسيارة، ومع خطوتك الأولى إلى الداخل يرحب بك ذاك التناغم بين أصوات زقزقة العصافير وقطرات المطر في محيط يبعث على السكينة.. وهذا ما حدث لي بعد رحلة مرهقة ذاب إحساسي بمتاعبها فور اقترابي من الجناح الأنيق الذي تم اختياره لإقامتي.. شعرت أنني أدخل حكاية من تلك الحكايات الحلوة المحفورة على جدران ذاكرة طفولتي ولم أكن أتصور أن عيشها على أرض الواقع ممكنًا قبل زيارة هذا المكان الآسر.
ما أن تجتاز البوابة الحديدية الصغيرة ذات المزلاج، والتي تشبع إحساسك بالخصوصية ورفاهية امتلاك مساحة خاصة بك من الحرية والحميمية؛ حتى تتجاوز ممشى حجريًا قصيرًا يفضي بك إلى شرفتك أو حديقتك الخاصة بمقاعدها النظيفة التي تجمع بين البساطة والأناقة، وتذكرك بكلمات الشعر نزار قباني في قصيدته التي تقول: “دعيني أترجم بعض كلام المقاعد وهي ترحب فيك”.
عني أنا منيت نفسي بساعة مريحة أقضيها جالسة على أحد تلك المقاعد مع كتاب شهي، لكن الحظ لم يحالفني بسبب إصرار الأمطار على الهطول في بدايات الصباح الأولى، ثم انشغالنا بدرس الطبخ طوال ما تبقى من النهار.
ومن الباب الزجاجي تدخل عالمًا آخر من الدفء والرفاهية، وأول ما يرحب بك على طاولة الطعام طبق من الشيكولاتة، ولفافة تضم هدية لك، وبطاقة ترحيب بك مكتوبة بخط اليد، ولا يقصر الموظف المكلف بمراعاة طلباتك في سؤالك عما قد تحتاجه اليوم أو صباح غد قبل مغادرته.
صادف أن نسيت حقيبتي في صالة استقبال الفندق، وما أن خرجت من هذا الجناح الأنيق للمجيء بها حتى واجهت فتى من العاملين يحملها أمام الباب لتقديمها بكل تهذيب، حتى الآن يبدو الأمر معتادًا في الفنادق الفخمة، لكن ما استوقفني هو تدفق كلماته بلهجة إنجليزية فصحى أصيلة وهو يسألني عما إذا أردت شيئا، ويؤكد لي أن خدمة الغرف ستكون مسرورة جدا بخدمتي إن احتجت أي شيء.. تلك اللهجة النقية المنمقة، والزي الذي يرتديه، وأجواء الحديقة الخالية من تلوث العصر، وشكل المبنى من الخارج، أشعراني للحظات أنني عدت إلى عصر الروائية البريطانية المذهلة “جين أوستن”، وأنني أقيم في مسكن يشبه المسكن الذي كانت تقيم فيه، ولا يسعني وصف مدى شعوري بالشغف والحماسة أمام هذا الإحساس الفريد! وتضاعف هذا الشعور تفردًا ولذة حين بدأت أستكشف حجرة النوم ذات الطراز العريق الذي يمتاز بمغسلة ذات شكل يعود حقا إلى تلك الفترة الزمنية، عدا عن المناديل القماشية الصغيرة وقطع الصابون المستطيلة التي لم يشاهدها معظمنا إلا في الرسوم المتحركة الأوروبية المقتبسة عن حكايات عالمية خالدة، وبقية التفاصيل المنتمية إلى ذاك العصر الهادئ الذي تجتمع فيه الأناقة بالجمال بالذوق الرفيع.
السرير الفاخر يستقبلك برسالة صغيرة ترى اسمك مكتوبًا عليها بخط اليد، فتتحرق شوقا لفتحها وقراءة مضمونها السري الخاص بك وحدك، أما وسائده اللينة فترشحك لألذ الأحلام، وقد يحدث لكم ما حدث لي فتغوصون في نوم ليلي عميق شهي بلا أحلام؛ متزودين بطاقة إيجابية نادرة للاستيقاظ بابتسامة ورغبة مضاعفة بالحياة.
الحمام هو الآخر صورة من صور الرفاهية التي تجمع بين أناقة الماضي وحداثة الحاضر، وفرصة رائعة لتدليل الذات سواء في جانبه المخصص لأخذ حمام سريع على عجالة، أو جانب المغطس الرخامي الذي يمكنك من الغوص في أوقات ثرية بالدفء والاسترخاء أمام شاشة تلفاز مسطحة يندر أن تجد مثلها إلا في حمامات مساكن نخبة المجتمع وصفوته.
هنا ستدرك المعنى الحقيقي للراحة إلى درجة أنك لن تكون بحاجة لتحريك إصبعك كي تشعل النور، إذ يكفي أن تقترب من المكان الذي ستدخله كي تضيء أنواره من تلقاء ذاتها. وبالمُناسبة؛ يمكنك اختيار تشكيلة الإضاءة الهادئة أو الصاخبة التي تروق لك وفق حاجتك وتقلبات مزاجك بنقرة زر صغيرة على لوحة خيارات إلكترونية في غرفتك وغرفة الجلوس!
راحة للجسد وإلهام للروح:
بعد أن تنال قسطك الوافي من راحة الجسد؛ ستجد مساحات شاسعة من راحة النفس والإلهام المعنوي في الحديقة التي تجمع بين الجمال الطبيعي والتنسيق الهندسي الأنيق. في كل زاوية خضراء ستصادف تمثالاً أو أكثر يذكرك ببعض أبطال الروايات الشهيرة المقروءة أو الرسوم المتحركة المطبوعة في ذاكرتك.
ولأن لا شيء في هذا المكان يتم بعشوائية؛ فإن لتلك التماثيل أهداف واقعية أخرى تواكب أهدافها الجمالية الحالمة. اكتشفت هذا حين كدت أفقد الطريق إلى مسكني الخاص ليلاً بعد العودة من العشاء، وكان دليلي له تمثال صبي صغير شقي يجلس القرفصاء على العشب مترقبا انطلاقة كرة بيسبول من لاعب غير مرئي!
ولأن بريطانيا هي سيدة الحكايات بامتياز؛ ستكتشف فيما بعد أن لكل تمثال من هذه التماثيل حكاية تعود جذورها إلى أسطورة مفعمة بالحكمة، ومحلقة في عالم الخيال الساحر.
إشباع للروح.. وللبطن أيضا!
للطعام هنا أيضا مذاق خاص وطقوس أنيقة.. إنه ليس مجرد طعام بل طريقة لاكتشاف مذاقات جديدة، والانسياب مع تيار الذوق و”الإتيكيت” الخاص به وتفاصيله، عدا عن أنه يوفر دروس خاصة للطبخ في “مدرسة ريموند بلانك للطبخ“، وتبث تلك الدروس على الهواء مباشرة على قناة تلفازية في حجرات الفندق.
لغتك الرائعة طغت على أهمية المعلومة، شكرا لك.
الشكر الكبير موصول لك..
لكن هل هذا الطغيان يُعتبر سلبيًا أم إيجابيًا في هذا المقام؟!
ما أجمل اجتماع المتعة والمعلومة.. شكرا لك مرة أخرى