كنت أعرفها مدينة أوروبية جميلة يتعانق فيها التاريخ والحضارة، وفيها تضرب العادات البلغارية جذورها فى الماضى البعيد فيتتشابك التراث والدين، فلا تكاد توجد مدينة أخرى في أوروبا تكون فيها المراكز الدينية لكل من الأرثوذكس والكاثوليك واليهود والمسلمين بهذا القرب من بعضها البعض.

صوفيا عاصمة جمهورية بلغاريا، وأكبر مدنها مساحة، يعود تاريخها إلى ما قبل 2700 سنة، أنشأها البلغار التراقيين القدماء على مساحة 1310 كيلومتر مربع في سهل صوفيا العالي على السفح الجنوبي لجبال “فيتوشا”، محاطة بجبال “ستارا بلانينا” أو ما تسمى بالجبال القديمة، ويبلغ متوسط ارتفاعها عن سطح البحر 550 متراً، وتتميز بشتاء بارد كثير الثلوج وصيف معتدل الحرارة مما يناسب كثير من أنواع السياحة كالبيئية والبحرية، الثقافية، الرياضية، العلاجية، بالإضافة إلى سياحة المؤتمرات. وتعتبر صوفيا مركز الثقافة والصناعة ومركز الحكم في بلغاريا.

صورة للعاصمة البلغارية الجميلة “صوفيا”

عبر آلاف السنين استمر تشكيل نمط الحياة والثقافة البلغاريتين، وترك الأقدمون كثير من التراث وملامح الحضارة الفريدة عبر سنين حكمهم الطويلة والممتدة فى عمق التاريخ؛ فقد كان الكنز الذهبي المكتشف في مقبرة فارنا العائدة إلى العصر الحجري الحديث أول ذهب مصنع تم اكتشافه في العالم، فليس من قبيل الصدفة أن تولد هناك أول حضارة أوربية تمتد في ملتقى الطرق بين أوروبا وآسيا، ففي القرن الثامن قبل الميلاد استقرت هنا القبيلة التراقية سيـردي (serdi)، وقد جذبتهم ينابيع المياه الحارة، وهم الذين أعطوا المدينة اسمها الأول “سيرديكا” (Serdika) في القرن الأول الميلادي، وجعلوا منها مدينة رومانية مزدهرة، وكانت المركز الإداري للولاية الرومانية التي تقع فيها، حتى أصبحت المدينة المفضلة لدى الإمبراطور قسطنطين الأول، والذي كان يقول: “سِيرديكا هي بمثابة روما بالنسبة لي”.

في بداية القرن التاسع استولى الخان كروم البلغاري على “سِيرديكا”، لكن من ضم المدينة إلى الدولة البلغارية الأولى (بين القرنين السابع والحادي عشر) نهائياً هو الخان أومورتاغ.

كاتدرائية القديسة صوفيا التي حملت المدينة اسمها

وقد حملت المدينة اسمها الحالي “صوفيا” في نهاية القرن الرابع عشر، على اسم كنيستها الرئيسية في ذلك الحين بازيليكا “القديسة صوفيا”، والتي كانت تعتبر رمزاً للمدينة. وفي عام 1838 وقعت صوفيا في أيدي العثمانيين وبقيت كذلك حتى تحريرها من عام 1878، وأعلنت في أبريل عام 1879 عاصمةً للدولة البلغارية المحررة.

تحتل المدينة موقعاً استراتيجياً غرب بلغاريا على مفترق الطرق التي تربط أوروبا الغربية بالشرق الأوسط والشرق الأقصى، ونهر الدانوب بالبحر الأبيض المتوسط، والبحر الأسود بالبحر الأدرياتيكي. وتتمتع بتضاريس متنوعة من السهول والهضاب والمرتفعات والوديان والجبال المختلفة الارتفاع.

مدينة الينابيع الحارة

قليلة هي البلدان الأوربية التي تستطيع منافسة بلغاريا في مجال سياحة العلاج والتأهيل بالمياه المعدنية والطين؛ فبفضل وفرة وتعدد أنواع المياه المعدنية الحارة وموارد الطين العلاجي في الأراضي البلغارية تحتل البلاد إحدى المراتب الأولى في أوربا في هذا النوع من السياحة، ويمكن ممارسة هذا النوع من العلاج في حي أوفتشا كوبل (Ovchakupel) وسط صوفيا، ويضم  العشرات من مراكز الإستشفاء و السبا، وهناك  يمكن الخلود للراحة والانغماس في المعالجات التأهيلية والتجميلية.

كما تشتهر المدينة بتنوع الأعشاب الطبية والنباتات العطرية، وهي بذلك  توفر ظروفا ملائمة لزيارة البلاد على مدار السنة بهدف علاج أنواع مختلفة من الأمراض، أو الوقاية من الإصابة بها، أو للراحة والاستجمام.

آثار صوفيا

تحتفظ صوفيا بالعديد من الآثار القيمة؛ فبينما يتجول السائح يمكنه رؤية البقايا المكشوفة من البوابة الشرقية للمدينة القديمة التي يرجع تاريخها إلى فترة ما بين القرن الثاني والقرن الرابع عشر. وتتواجد الآثار ما بين نفق المشاة بين مبنى رئاسة الدولة ومبنى مجلس الوزراء، وحولها يوجد العديد من المتاجر حيث يمكن شراء الهدايا التذكارية التقليدية.

مسجد “بانيا باشي” إرث 500 عام من الوجود العثماني في بلغاريا

وتفتخر وسط صوفيا بمجموعة من الكنائس الأرثوذكسية القديمة والجديدة، ومسجد “بانيا باشي” (Banya Bashi) الذى يعد  كل ما تبقى من 500 سنة ماضية من الهيمنة العثمانية والذي بني في القرن السادس عشر، والكنيس اليهودي الذي يضم متحفاً.

وكذلك كنيسة “القديسة صوفيا” التي بنيت في عهد الإمبراطور البيزنطي جستينيان، وكانت الكنيسة الرئيسية للمدينة القديمة، كما أنها مبنية في موقع مقبرة مدينة سيرديكا، الاسم القديم لصوفيا، ووجدت فيها أجزاء من فسيفساء أحد المعابد القديمة، أما في فترة السيطرة العثمانية فقد تحولت إلى مسجد. وبالقرب منها تقع  كاتدرائية “ألكسندر نيفسكي” (Alexander Nevski).

ومقابل الكاتدرائية تماماً يقع المتحف الوطني للفن الأجنبي، الذي كثيراً ما يستضيف معارض لفنانين مشهورين عالمياً، إضافة لمعارضه الدائمة.

ومن معالم المدينة الأخرى جسر الأسود، وجسر النسور، والنصب التذكاري الروسي (وهو مكرس للقيصر الروسي ألكسندر الثاني الذي أعلن حربا على تركيا أدت إلى تحرير بلغاريا)، ومقابل المدخل الرئيسي لمبنى رئاسة الدولة يقع المتحف الوطني للآثار، الذي يحتفظ ببعض من أثمن الكنوز التي اكتشفها علماء الآثار في الأراضي البلغارية حتى الآن. أما روائع الفنون التشكيلية فيمكن الإطلاع عليها في المتحف الوطني للفنون، الذي يقع في مبنى القصر الملكي السابق.

تماثيل لنسور عند مداخل جسر النسور في صوفيا

ولو كنت من هواة المقتنيات الثمينة يمكنك زيارة المتحف التقني الوطني حيث يتم الاحتفاظ بأندر مجموعة من أجهزة قياس الوقت الثمينة منها بعض الساعات التي كانت ملكاً للأسرة الملكية. ومن بين أثمن المعروضات وعاءٌ زجاجي فيه أولى البلورات من عنصر الجرمانيوم، كما يوجد في المتحف غرفة عرض فيزيائية خاصة بالأطفال فيها أجهزة قديمة وآلات نموذجية تعرّف الصغار على عالم العلم بصورة مرئية، كما تباع موادّ إعلامية وتذكارات للسياح.

على بعد 120 كيلومتر جنوب صوفيا، يقع “دير ريلا” وهو واحد من المعالم الثقافية الأكثر أهمية في بلغاريا، وأدرج في قائمة اليونسكو للتراث العالمي الثقافي في عام 1983. ويفضل كثير من الزوار التخييم فى الجبال الخلابة المحيطة بالدير قبل الانطلاق لاستكشاف الممرات الجبلية  وحدائق ريلا الوطنية من خلال اختراق غابات الصنوبر الكثيفة والمحيطة بالمكان، مستمتعين بمشاهدة أجمل وأندر النباتات المميزة التى تشتهر بها الطبيعة البلغارية.

كما يمكن أن تزور مدينة “سوزوبول” التي تقع على بعد 460 كيلومتر تقريباً من صوفيا، وهي من أقدم المدن على السواحل البلغارية، ومن أشهر المنتجعات البحرية التي يجذب جمالها وأجواؤها الرومانسية كثيراً من السياح، كما تضم رفات “القديس يوحنا المعمدان” المحفوظ في كنيسة القديسين (كيريل وميثودى).

متنزهات وترفيه للجميع

الحدائق والمنتزهات في صوفيا هي المكان المفضل للإستراحة والرياضة؛ ففي وسط المدينة يمتد متنزه الملك بوريس، وبالقرب من قصر الثقافة الوطني يوجد المنتزه الجنوبي. وعلى مسافة قريبة من صوفيا، عند مدينة إختيمان (Ihtiman) وقرية رافنو بوليه (Ravno pole)، يوجد ملعبان للجولف.

وفي فصل الشتاء يصبح جبل فيتوشا الوجهة المفضلة لمحبي رياضة التزلج، وفي الصيف هو أكثر الأماكن شعبية للنزهات والمشي لمسافات طويلة، فهو مكان ساحر بمناظره الطبيعية الجميلة وغطائه الأخضر.

متنزه “الملك بوريس” في العاصمة البلغارية صوفيا

تقدم صوفيا، شأنَ كل المدن الكبيرة، خيارات كثيرة للإقامة؛ فهناك العديد من الفنادق منها ما يتبع سلاسل الفنادق العالمية،. وهناك النزل والفنادق العائلية الصغيرة، بالإضافة إلى المرافق الترفيهية المتنوعة والتي تقدم الترفيه لجميع الأذواق مثل المطاعم والمقاهي ومحلات الوجبات السريعة، كما تقدم المسارح وصالات العرض في صوفيا برامج متنوعة ومثيرة للاهتمام.

ولمن يصطحب أطفاله فى هذه الرحلة يمكنك زيارة  حديقة الحيوانات التى  تقع في الجزء الجنوبي من المدينة، أما هواة التسوق فيمكنهم التوجه إلى  بوليفار “فيتوشا” في وسط المدينة وهو من الأماكن المفضلة للزوار والمقيمين في العاصمة حيث تنتشر محلات العلامات العالمية، وهو شارع مغلق للمشاة مما يجعله مكاناً لطيفاً للتنزه والاستراحة.

عادات وتقاليد

تشهد التقاليد والأعياد التي حفظتها ذاكرة سكان بلغاريا على تطور روحانية الشعب البلغاري ونمط حياته عبر القرون؛ فتضرب العادات البلغارية بجذورها في الماضي وترتبط بالدين المسيحي، ومنها: طقوس النَستيناري التي تعتمد على الرقص على الجمر، ألعاب الكوكري ويؤديه الرجال فقط أثناء أعياد رأس السنة، ولادوفانه (Laduvane) هي عادة طريفة تؤدى في عيد رأس السنة حيث تتوجه الفتيات إلى لادا (Lada) وهي الإلهة السلافية للحب والأسرة،  ويطلبون منها الكشف عن أسماء وطباع أزواجهن المستقبليين.

كما يحتفل سكان المدينة في 17 سبتمبر بيوم القديسة صوفيا وبناتها الثلاث فيارا، ناديجدا، وليوبوف. وتعني أسماؤهن على التوالي: إيمان وأمل وحب. ويحتفل البلغار بالأعياد المسيحية، ويجتمع أفراد العائلة المنتمين إلى عدة أجيال في بيت الجيل الأقدم، ويحتفل معهم في المناطق المختلطة السكان جيرانهم المسلمون، كما أن المسيحيون يشاركون في الاحتفال بأعياد المسلمين.

رقصات بالزي التقليدي البلغاري

فى طرقات مدينة صوفيا الجميلة يلفت نظرك ابتسامات سكانها وضحكاتهم الصافية، وهم دائما يمشون فى جماعات، وقد يدعونك مرات عديدة لتتناول معهم قهوتهم المميزة فى فضاء الطبيعة أو فى حدائقهم المفتوحة والمليئة بكل صنوف البشر، وقد يطلبون منك المشاركة في طقوس احتفالاتهم ورقصاتهم المميزة وهم يرتدون زيهم المزخرف والذى صار رمزاً لبلغاريا، وجزء من الحياة اليومية والثقافة الشعبية، وبمرور الزمن تداخلت في زينته زخارف تعود إلى التراقيين والسلاف والبلغار القدامى، ويتكون الزى من القميص الأبيض ذي الأكمام الطويلة، و فوقه قطع لباس خارجية مختلفة الشكل والقماش والزينة. وتتنوع الأزياء النسائية بين أربعة أطرزة، أما الأزياء الرجالية فهي على طرازين؛ باللون الأبيض أو الأسود.

كما تهتم الثقافة الشعبية البلغارية بالموسيقى والرقص باستخدام الآلات الموسيقية الشائعة مثل المزمار و القربة والناي والآلات الوترية والطبول. وتشتهر بعض فرق الغناء الفولكلوري على مستوى العالم مثل “أصوات من الفضاء الخارجي” و”سحر الأصوات البلغارية”.

ويتنوع الرقص الشعبي بين الجماعي، وفيه يمسك مجموعة من الناس أيدي بعضهم بعضاً ويؤدون خطوات معينة على لحن ذي إيقاع خاص، مشكلين دائرة أو شبه دائرة أو خط مستقيم أو خط ملتوٍ. والرقص الفردي حيث يقف الراقصون متواجهين ويؤدون الخطوات الخاصة بالراتشينيتسا، وكثيراً ما يتحول الرقص الذي يتميز بالإيقاع السريع إلى تبارز بين راقصَين، ولا ينتهي إلا عندما يتعب أحدهما إلى حد أنه يقع على الأرض.

أسابيع صوفيا الفنية والموسيقية

تستضيف صوفيا، بوصفها العاصمة البلغارية، العديد من الفعاليات الثقافية والموسيقية والرياضية؛ ففي قصر الثقافة الوطني وفي الملاعب والقاعات الكبيرة تقام العديد من المؤتمرات والمعارض التجارية والفنية والحفلات الموسيقية، ويعج قصر الثقافة الوطني في شهري (مايو ويونيو) بعروض المشاركين في المهرجان الدولي “أسابيع صوفيا الموسيقية”. وللمزيد عن السياحة في صوفيا وبلغاريا: بوابة بلغاريا الرسمية للسياحة.

صور من مدينة التاريخ والينابيع الساخنة “صوفيا”: (لحجم أكبر اضغط على الصورة)

شارك برأيكإلغاء الرد

التعليق

  • أريد أن أزور أروبا الوسطى ، فأيّ المدن أحسن : صوفيا أم بودابست أم براغ أم بلغراد