ثمة ألفة حميمية لم أشعر بها من قبل ورابطة قوية نشأت بيننا ولم تنفصم عراها امتدت على مدى أربع سنوات نسجت خلالها ذكريات ما زالت محفورة في العقل والوجدان ترسم ملامح تلك اللحظات، وامتزجت فيها الخواطر والأفكار والتأملات التي حملت في ثناياها أدق تفاصيل الماضي الغابر والحاضر المعاصر، أو بالأحرى الأصالة والمعاصرة اللتان تجسدتا في كل ركن من أركان سوق واقف أشهر الأسواق الشعبية وواحد من أبرز و أهم المعالم السياحية في العاصمة القطرية الدوحة.
يأسر سوق واقف الألباب بطرازه المعماري الفريد الذي ما زال محافظاً عليه رغم مرور عقود زمنية طويلة على وجوده، ورغم خطة تطويره التي بدأت عام 2004 وأضفت عليه لمسة جمالية عصرية إلى جانب الطابع الشعبي التقليدي.
يتوسط السوق ويقسمه إلى نصفين شارع رئيسي ضيق يمتد لقرابة كيلومتر يبدأ من الشارع العام في وسط الدوحة وينتهي عند موقف للسيارات مخصص لزوار السوق من المواطنين والمقيمين والسائحين الأجانب الذين يتوافدون لزيارة معالم السوق بأعداد ضخمة، وربما لا أبالغ بأن باستطاعة المرء مشاهدة قرابة نصف سكان العالم من مختلف الجنسيات والألوان، بل والشخصيات المعروفة من زوار قطر بينما يسير في جولة على قدميه أو وهو جالس يحتسي كوباً من الشاي أو فنجانا من القهوة العربية على أحد المقاهي المنتشرة على جانبي هذا السوق العريق. فثمة تقليد بات ثابتا وراسخا في برنامج زيارة كبار المسئولين الأجانب لقطر ألا وهو القيام بجولة داخل السوق لمشاهدته والاستمتاع بمبانيه والتقاط الصور التذكارية لمعالمه التاريخية.
لا يستمد سوق واقف أهميته من مجرد كونه سوقاً شعبياً يرتاده والسائحون لشراء الهدايا والتذكارات فقط، بل لأنه أضحى وبعد تطويره في غضون السنوات الأخيرة ملتقى للفكر والثقافة والفنون؛ حيث يضم السوق في أوله قاعة مخصصة لعرض لوحات وأعمال فنية لفنانيين تشكيليين ينتمون إلى جنسيات مختلفة.
وعلى جانبي السوق تصطف العديد من المقاهي والمطاعم التي تتبارى في تقديم مختلف أنواع الأكلات الشرقية وإرضاء أذواق الوافدين عليها. ويحضرني هنا تلك الوجبات ذات المذاق الخاص من المطبخ المحلي القطري والتي كنت أتناولها بصورة منتظمة ودائمة في مطعم صغير يتوسط السوق تديره “أم عبد العزيز” التي ذاع صيتها وشهرتها لدى معظم رواد السوق حتى باتت من معالمه البارزة.
هذه السيدة العجوز التي شارفت على السبعين متخصصة في إعداد أطباق متنوعة مثل الهريس والمضروبة والمرقوقة والخنفروش والخبيص والساقو والبلاليط وغيرها من أطباق المطبخ القطري. كما يمكن تذوق الفلافل المصرية والكبسة اللبنانية والطاجين المغربي والكبدة النوبية وغيرها من أنواع الأكلات العربية التي يحرص القائمون عليها على إرضاء الضيوف، أما إذا كنت من هواة تذوق الطعام الإيراني فهنالك مطعم أصفهان الذي يقدم لزبائنه أشهى الوجبات والأطعمة من المطبخ الايراني.
تتباين المعروضات التي تعرضها المتاجر داخل سوق واقف في أشكالها وألوانها بين منسوجات البدو التي يحرص القائمون على السوق على أن تكون أول ما يستقبل الوافد إليه من مختلف مداخله، ومع توغلك داخل السوق تقابلك المحلات المختصة في بيع التذكارات التراثية من مستلزمات الخيول العربية أو مستلزمات الصيد بالصقور أو أنواع القهوة العربية والتي تصطف محلاتها جنباً إلى جنب والتي يأتي على رأسها الهيل الذي لا غنى لأية مائدة خليجية عنه، ناهيك عن أشكال متعددة من الأعشاب الشعبية التي يلجأ إليها الزائرون بديلاً عن العقاقير الطبية.
فضلاً عن ذلك، يجد رواد سوق واقف الكثير من المحلات والمتاجر أشبه ما تكون بالمعارض أو الجاليري والتي تتخصص في نشاط واحد وهو بيع نماذج مصغرة ومجسمات لمراكب وسفن الغوص والبحث عن اللؤلؤ إضافة إلى معدات الصيد القديمة، والتي تعيد إلى الأذهان ماضي الغوص وصيد السمك واللؤلؤ التي تعد من أقدم المهن التي امتهنها سكان دول الخليج قبل حدوث الطفرة البترولية في العقود الأخيرة. هذا بجانب بعض المتاجر المتخصصة في صناعة وتصليح الآلات الموسيقية والتحف والأعمال اليدوية كالسيوف والخناجر والأواني النحاسية.
وفي مكان ليس يبعد بضعة أمتار فقط عن سوق واقف وإذا كنت من محبي الصقور، ستجد ضالتك المنشودة في ذلك المتجر أوالسوق الصغير الذي يعرض أصنافا وأشكالاً عدة من الصقور ومعها كافة مستلزماتها، بل ان السوق يحرص على عرض لافتة صغيرة تقدم نبذة عن الصقر ونوعه وموطنه وكافة البيانات اللازمة. وليس الصقور فقط فتنتشر محلات كثيرة تعرض لأنواع مختلفة بعضها من الفصائل النادرة من الطيور كالحمام والببغاوات، وبجانب الطيور المعروضة في أقفاص سوق واقف تتجمع في السوق مجموعة من أجمل أنواع الحمام تطير في “ساحة الحمام” حيث ينثر التجار والزوار الحب على أرض الساحة.
بيد أن المتعة الحقيقية في سوق واقف تصل إلى ذروتها مع انتصاف الليل وبدء الأمسيات الترفيهية والغنائية والعروض المختلفة التي تقدمها فرق غنائية حيث تمتد السهرات الغنائية حتى الساعات الأولى من الصباح وعلى الأخص يوميّ الخميس والجمعة من كل أسبوع، وهي أمسيات تلقى إقبالا كبيرا من جمهور الحاضرين الذين يتحلقون حول موقع هذه العروض ويتفاعلون مع أعضاء هذه الفرق الغنائية التي تقدم فنوناً شتى تجمع ما بين التراثي القديم والطابع العصري. وعلى مقربة من الساحة التي تقام فيها هذه العروض، تقع ساحة أكبر تقام فيها مهرجانات للأغنية الشعبية والتي تشارك فيها كوكبة من فناني الغناء الشعبي في قطر وبقية دول الخليج وعلى الأخص من السعودية واليمن.
اقرأ أيضاً عن فنادق في سوق واقف: ارميله ومشيرب.. فنادق بوتيك جديدة في واقف، فندق النجادة: ضيافة عصرية في مبنى قديم
شاهد مشاهد من سوق واقف في الدوحة: (لحجم أكبر اضغط على الصورة)