برغم أن تالين مدينة تستحق الزيارة للاستمتاع بها في كل أوقات العام بيد أنه من المؤكد سيكون ذهابك إليها في هذه الآونة من حسن الطالع، إذ تتزين بثوب الحرية حيث تتزامن رحلتك مع احتفالهم الوطني بحصولهم على الاستقلال منذ 20 عاماً فيما سمي بـ “ثورة الغناء”، والذي تجتمع فيه العائلات الاستونية سوياً لتغتنم بعضاً من نسيم الحرية الذي يتناغم مع عزف الكمان والأكورديون النابع من الفرق الموسيقية التي تنتشر في الحدائق والمنتزهات الممتدة في كل مكان في تالين.
تعتبر تالين، عاصمة استونيا، ميناء بحري يقع على الشاطئ الجنوبي لخليج فنلندا، على بعد 50 ميلا من جنوب هليسنكي و200 ميل غرب سان بطرسبرج، كما تتربع على طرق التجارة الرئيسية مما يجعلها تعتبر مركزا صناعيا وثقافيا، إلا أن هذا جعلها عرضة دوما للاحتلال من العديد من الدول المجاورة والتي كانت تطمع فيها كميناء لها، ونتيجة لذلك لم تذق طعم الاستقلال سوى 40 عاما خلال ثمانية قرون ماضية.
أما الآن وبعد رحيل المحتلين الطامعين لم تعد استونيا حرة فحسب لكنها أيضا صارت رمزا للازدهار، عدد سكانها 1.3 مليون نسمة، حتى احتلت مرتبة متقدمة في معدلات النمو والتعليم في أوربا، وأطلقت إحدى الدراسات، عام 2006، على استونيا لقب الدولة الأكثر حرية في العالم بينما احتلت أمريكا المرتبة الثامنة.
وبرغم أن مدينة تالين تعتبر واحدة من أفضل المدن الأوربية في القرون الوسطى، إلا أنها لا تعتبر وجهة تاريخية جامدة؛ حيث يمكنك أن تتلمس هذا التاريخ وتشعر به من خلال التجول في الشوارع، والجلوس في الساحات والميادين، ورؤية الحرفيين والاستماع للموسيقى، وتجدر الإشارة أن استونيا هي مهد ميلاد برنامج “سكاي بي” الشهير، الذي يجعل الحوارات الصوتية والمرئية ممكنة عبر الإنترنت.
خلال رحلتك إلى تالين لا تنسى أن تمضي بعض الوقت في زيارة المنازل الخشبية القديمة، وتلتقط أنفاسك لفترة وجيزة أمام قصر “كادريروج” العتيق الرائع، والذي بني في أوائل القرن الثامن عشر وكان استراحة صيفية للقيصر الروسي بيتر العظيم، والذي يعتبر الخلفية المفضلة للسياح الشباب في يوم زفافهم.
بعد ذلك يمكن أن تغتنم بعض الوقت في رياضة السير إذا كنت من محبيها إذ تعد تالين مدينة مناسبة للغاية للتجوال والمشي، حتى تصل إلى المدينة القديمة والتي تنقسم إلى مدينتين منفصلتين تنتميان للعصور الوسطى ويفصلهما عن بعضهما سور وتسمى الأولى دوم هيل وهي المدينة العليا وفيها مقر السلطة الحاكمة، أما المدينة السفلى فتقع في ساحة المدينة القديمة وكانت مسكناً للتجار.
أما عن مباني المدينة القديمة فإنها تنقلك إلى القرن الثاني عشر حيث أنشئت على الطراز الكاثوليكي ولكنها من الطوب والطين وقليل من الأحجار أما أسقف مبانيها فمن القرميد وزوايا البيوت حادة للغاية.
ولن نبالغ حينما نقول أن شوارعها ترسم لوحة فنية تاريخية رائعة، فبرغم ضيقها والتوائها، فقد رصفت بالحصى المكتنزة ذات اللون الأزرق والرمادي والوردي، وبعد بضعة خطوات داخل المدينة القديمة تشعر كأن التاريخ يعلن عن نفسه، فهنا لوحة تشير إلى المدرسة التي أسست عام 1240، وهناك نحت غائر يكرم، فولدمار بانسو، محرك العرائس، وخلال مرورك بميدان “راهوكوتو” ستندهش من حجم الزخارف الملونة والزينة التي تغطي أسطح المنازل، وبنظرة شاملة على الميناء تظهر عدد من التحصينات المثيرة للإعجاب وعددها 26 برج دفاعي ما زالت باقية على ميل من الجدران العملاقة.
وفي الظهيرة تقريباً تكون قد وصلت إلى الكنيسة التي بنيت في القرن الثالث عشر، لترى قبتها التي زينت بغطاء من الأذرع الضخمة ليوحي بقوة العائلات الثرية، والتي تسمى “الألمان البلطيق”، وحتى يحين وقت الغذاء يمكنك أن تستمتع بعزف الموسيقى الذي يملأ جنبات المكان وأروقة الشوارع، لكي تتناول بعدها طبق السمك المملح الشهير.
بعد ذلك لابد أن تقوم بزيارة المتحف الوطني والذي يضم معرضا يدعي “روح البقاء” والذي يعتبر تجسيداً هائلاً لكل الغزاة من جميع الدول التي احتلت استونيا وقاومها الشعب حتى رحلت، وهناك معرض آخر يظهر أن “الألمان البلطيق”، النخبة التجارية والثقافية في المدينة لا يعتبرون الاستونيين سوى فلاحين وخدم لديهم، كما يعرض كيف كان السكان الأصليين منبوذين اجتماعياً وكيف هُضمت حقوقهم لقرون عديدة.
ليس ثمة شك أن تالين مدينة تستحق الذهاب إليها فهي تنبض بالحياة في كل جنباتها في المقاهي والمطاعم تجد الموسيقيين والراقصين والناس من كل الأعمار يتحدثون بعشرات اللغات وينعمون بنسيم الحرية والهواء الطلق، ولا تقلق أو ترتاب حينما تتقلب الرياح فما هي إلا رياح ونسيم الحرية.