برغم كونها مهجورة منذ ما يقرب من 80 عاماً، إلا أنها لم تتحول إلى أماكن موحشة، مثل بقية الأماكن المهجورة في العالم, بالعكس فقد تحولت السكك الحديدية في باريس إلى مكان مذهل وخلاب يخطف القلب ويسحر اللب ويثير العواطف ويأسر الوجدان.
يبدو أن الفضل في ذلك يعود إلى اهتمام المواطنين بزرع الزهور البرية، وغرس النباتات حول مسارات القطار القديم في وسط العاصمة الفرنسية، مما حوّل المكان إلى واحة من البهجة, يمتد طولها “السكك الحديدية” أو “سينترو” إلى 17 ميلاً، وبرغم أن السلطات تحظر بشكل رسمي على الجمهور الدخول إليها، فإن المواطنين يلجأون إليها طلباً للراحة والهدوء والاستجمام.
جدير بالإشارة أن السكك الحديدية الباريسية القديمة شيدت عام 1852، وكانت ضمن المنظومات الفرنسية الأولى للربط بين المدن على مستوى العالم، ثم أغلقت عام 1934، بعدما أنشئت هيئة النقل مترو باريس في الثلاثينيات؛ للربط بين ضواحي باريس، وتعتبر”سينترو” في الوقت الحالي جزءاً من التراث الوطني الفرنسي.
الأجمل والأروع أن سكك الحديد الباريسية شبه المنسية تجمع في رونقها بين الماضي والحاضر وكذلك المستقبل, فبينما يعود تاريخ نشأتها إلى القرن التاسع عشر حيث كانت تستخدم في النقل التجاري, فقد أصبح بعد مرور ما يقرب من قرن منارة لنقل الثقافة ونشر الرقي والجمال في الوقت الراهن وربما يتخطى ذلك إلى العقود القادمة.
وربما تندهش كثيرا حينما تعرف أن هذه السكك الحديدية كانت في بداية الأمر عسكرية, حيث أن إنعدام الحماية للعديد من المدن الرئيسية في فرنسا كان سببا لهزيمة فرنسا من القوات البروسية في حروب عامي 1814 , 1815 لذا كان من الواجب استخدام الاختراع الجديد لمساعدة في سرعة نقل القوات الفرنسية حيث يوجد الخطر في جميع أنحاء البلاد.
كما ينظر هواة السكك الحديدية إلى “سينترو” الرشيقة كأنها عنصر باق ومستمر على قيد الحياة من حقبة ماضية، كما تعني العديد من الجمعيات التي تهدف لحماية السكك الحديدية المهجورة ومحطاتها المتبقية كجزء من التراث الوطني في فرنسا, حيث أنها وسيلة رائعة لرؤية باريس من منظور مختلف حيث اختلاس النظر إلى الجسور والسكك الحديدية من كل الشوارع كل بضع مئات من الأمتار.
(إقرأ : تاريخ باريس منذ نشأتها وحتى اليوم)
بعد أكثر من 150 عاما, زينت الطبيعة بفعل البشر “سينترو” الرشيقة بالألوان، سواء من خلال الكتابة على الجدران أو بواسطة زرع أكثر من 200 نوع من النباتات التي انتشرت على المسارات الخشبية, كما يقال أن أنفاق السكك الحديدية المتقادمة أيضا ربما تكون أسهل نقاط الوصول في سراديب الموتى في باريس.
من المعروف أنه يعرف عن القاطنين أو المقيمين بجوار السكك الحديدية انزعاجهم بمرور القطارات من آن لآخر مما يحدث جلبة وضجة عارمة توقظ النائم وتهز أركان المنازل, إلا أن سكك حديد باريس كانت بالنسبة للسكان المحيطين بها نعمة يحمدون الله عليها, حيث يستنشقون هواءا عليلا ويبتهجون لرؤية هذه المناظر الطبيعية الخلابة من بلكوناتهم أو شرفات المنازل.
وكما ذكرنا آنفا فقد أصبحت لوحة فنية بفعل الطبيعة أو بتدخل بشري حيث يقوم الشبان برسم الرسومات الجميلة أو كتابة العبارات الملونة مما أضفى على المنطقة رونق رائع يجمع بين أفضل ما يملكه البشر وما أفرزته الطبيعة من مكونات وعناصر أقل ما يقال عنها أنها تجمعت لتعطي لأعيننا منظرا لا يغيب عن العقول بل وريما يطبع في الوجدان.
(إقرأ أيضا :